القانون والتكنولوجيا: العلاقة المعقدة بين التشريع والابتكار في عصر الذكاء الاصطناعي
القانون والتكنولوجيا: تشكيل مستقبل العدالة الرقمية
مقدمة: عصر جديد من التفاعل بين القانون والتكنولوجيا
يعيش العالم اليوم في خضم ثورة تكنولوجية متسارعة، حيث تتداخل التكنولوجيا الرقمية في كافة جوانب الحياة، من أبسط المهام اليومية إلى أعقد العمليات الصناعية والحكومية. ولم يكن النظام القانوني بمنأى عن هذا التطور الهائل، بل وجد نفسه في قلب العاصفة، يتأثر بها ويؤثر فيها، مما أدى إلى نشوء علاقة جدلية ومعقدة بين القانون والتكنولوجيا. لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت قوة دافعة تعيد تشكيل المفاهيم القانونية التقليدية، وتفرض تحديات جديدة، وتفتح في الوقت ذاته آفاقًا واعدة لتطوير العدالة وتسهيل الوصول إليها.
![]() |
القانون والتكنولوجيا: التوازن الصعب بين التشريع والابتكار في عصر الذكاء الاصطناعي |
هذا المقال الشامل يغوص في أعماق العلاقة بين القانون والتكنولوجيا، مستكشفًا أبعادها المختلفة، ومحللًا تأثيرها المتبادل. سنستعرض كيف يعيد القانون تنظيم نفسه لاستيعاب هذه التقنيات الجديدة من خلال ما يعرف بـ "قانون التكنولوجيا" (Tech Law)، وكيف تساهم التكنولوجيا في تطوير الممارسة القانونية وتقديم الخدمات العدلية من خلال "التكنولوجيا القانونية" (Legal Tech). كما سنسلط الضوء على أبرز التحديات التي تواجه المشرعين والقضاة والمحامين في هذا العصر الرقمي، والفرص المتاحة لبناء نظام قانوني أكثر كفاءة وعدالة وشفافية.
1. القانون والتكنولوجيا: مفاهيم أساسية وعلاقة متداخلة
لفهم العلاقة المعقدة بين القانون والتكنولوجيا، لا بد أولاً من تحديد ماهية كل منهما، وكيف تتشابك مفاهيمهما في العصر الحديث. إن الترتيب الذي تُذكر به هاتان الكلمتان يغير من دلالة المفهوم، مما يستدعي تفصيلاً دقيقًا.
1.1. تعريف القانون
يُعرف القانون تقليديًا بأنه مجموعة القواعد المجردة والعامة التي تنظم سلوك الأفراد داخل المجتمع، وتضمنها السلطة العامة بفرض الجزاء على من يخالفها [5]. وجود القانون مرتبط بوجود الجماعة، فلا مجتمع بلا قانون ولا قانون بلا مجتمع [7]. يُنظر إلى القانون على أنه علم وفن في آن واحد؛ علم لأنه يستند إلى مشاهدة الواقع وتسجيله ودراسته للكشف عن واقع موجود، وفن لأنه إبداع إنساني يجسد المثل التي يسعى إليها الإنسان [8].
تتعدد تعاريف القانون لغويًا وعلميًا وقانونيًا:
- التعريف اللغوي: تعود كلمة القانون إلى الكلمة اليونانية "Kanun" التي تعني العصا المستقيمة، وتفيد النظام والاستقرار [10].
- المعنى العلمي: يرتبط بمجال علمي معين، كقانون الكون الذي يحكم حركة الكواكب وتعاقب الليل والنهار، أو قانون السوق الذي يحكم أسعار السلع والخدمات بناءً على العرض والطلب.
- المعنى القانوني: يشير إلى فرع معين من فروع القانون، كالقانون المدني أو القانون الجنائي، أو مفهوم أوسع كالقانون الجزائري أو القانون المقارن.
لكن المعنى المراد من القانون في الدراسات القانونية هو "مجموعة القواعد العامة المجردة الملزمة التي تنظم علاقات الأفراد في المجتمع، وتكفل السلطة العامة احترامها بتوقيع الجزاء على من يخالفها" [11]. وقد أضاف الفقه خصائص أخرى لهذه القواعد في العصر الحالي، حيث انتقلت القواعد القانونية من مجرد أدوات لتنظيم السلوك الاجتماعي إلى أدوات لتنظيم المعارف التقنية المعاصرة، ليواكب القانون كل تجديد تقني [12].
1.2. تعريف التكنولوجيا
كلمة "تكنولوجيا" (Technology) غالبًا ما تستخدم مرادفًا لكلمة "تقنية". وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية "Technologia" التي تعني إتقان فن معين [13]. التكنولوجيا هي التطبيق العملي للاكتشافات العلمية والابتكارات والمعرفة المكتسبة والخبرة المستخدمة لإنتاج السلع وتقديم الخدمات [14]. إنها علم التطبيقات أو التطبيق نفسه، وترتبط بالدقة والإتقان، وهي موضوع للعلم. وبالتالي، يمكن تعريف التكنولوجيا بأنها مجموعة المهارات والتقنيات والأساليب والعمليات التي يُستعان بها في إنتاج أو تقديم خدمة أو تحقيق هدف [14].
يمكن منح التكنولوجيا مفهومًا واسعًا، فهي معرفة بالعمليات والتقنيات، أو كل تقنية وآلة يستخدمها الإنسان. كما يمكن أن يكون لها مفهوم ضيق، كأنظمة آلية معقدة أو آلات تعمل بنظام تقني دقيق، حيث يتم إدخال أوامر أو مدخلات ليتم معالجتها بواسطة خوارزميات معينة، لتعطي مخرجات محددة [14].
1.3. تحديد المفهوم بالربط بين مصطلحي "القانون" و "التكنولوجيا"
لم يعد اندماج القانون والتكنولوجيا مجرد احتمال، بل أصبح حقيقة ملموسة في عالم تحكمه التكنولوجيا الرقمية التي أصبحت جزءًا مهمًا من الحياة اليومية. يختلف المفهوم باختلاف ترتيب المصطلحين، وهناك مفاهيم أخرى تختلف باختلاف الربط بينهما:
أ. Legal Tech (التكنولوجيا القانونية)
هذا المصطلح مركب، وله معنيان:
- 1.المعنى الوصفي: التكنولوجيا هنا صفة للقانون، أي أن الموضوع التكنولوجي يوصف بأنه قانوني. هذا يعني تدخل رجل القانون لتنظيم المجال التكنولوجي. وبمفهوم آخر، يُقصد به الاستخدام المشروع للتكنولوجيا، حيث يجب وضع تنظيم قانوني للتكنولوجيا لتكون قانونية. فالقانون هنا سينظم استخدام التكنولوجيا، ولن يمكن الحد من الهروب من تطبيقه لأنه يطبق على الجميع .
- 2.المعنى الإضافي: التكنولوجيا هنا مضاف إليه، والقانون هو المضاف. يُقصد بهذا المصطلح التكنولوجيا الخاصة بالقانون أو المتخصصة في المجال القانوني. تظهر هنا فكرة استخدام التكنولوجيا لخدمة القانون، حيث تستفيد العلوم من استخدام التكنولوجيا. هذا ما يُعرف بـ "الأتمتة" (Automatisation)، حيث تصبح مواضيع ومجالات القانون مؤتمتة، مثل القضاء، الخدمات القانونية، المعاملات، والوفاء [15]. لقد غيرت التكنولوجيا طريقة تقديم الخدمات القانونية واستهلاكها، من رقمنة الوثائق وإنشاء قواعد البيانات، وصولاً إلى استخدام أدوات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي للبحث عن المعلومات القانونية، وجمعها، وتحليلها، ومعالجتها لاتخاذ القرار المناسب في القضية المعروضة على رجل القانون .
ب. Tech Law (قانون التكنولوجيا)
هذا مفهوم مختلف ومقابل للمفهوم السابق. يُترجم على أنه قانون التكنولوجيا، ويُقصد به مجموعة القواعد العامة والمجردة في مجال التكنولوجيا، بمعنى تدخل القانون لتأطير التكنولوجيا. يتدخل المشرع بوضع شروط معينة أو كفاءات أو شهادات لممارسة نشاط تكنولوجي معين، وإصدار قوانين مرتبطة بتنظيم التكنولوجيا. من أمثلة ذلك في التشريع الجزائري: القانون المتعلق بعصرنة العدالة [16]، والقانون المتعلق بالتوقيع والتصديق الإلكتروني [17]، والقانون المتضمن قواعد خاصة للوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيا الإعلام والاتصال ومكافحتها [18]، والقانون المتعلق بحماية الأشخاص الطبيعيين في مجال معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي [19]، والقانون المتعلق بالتجارة الإلكترونية [20]، والتشريعات المتعلقة بالبنك الرقمي وطرق الدفع الحديثة [21].
ج. مصطلحات أخرى
- التكنولوجيا القانونية (Legal Tech): يقوم رجل القانون بإنشاء تطبيقات أو مواقع أو صفحات إلكترونية، وتتميز هذه التكنولوجيا الحديثة بارتباطها الوثيق بالمجال القانوني وتعدد وظائفها ومهامها. استخدام التكنولوجيا كالذكاء الاصطناعي في المجال القانوني سيؤدي حتمًا إلى تقديم حلول مبتكرة لجهاز العدالة ورجل القانون والمتعاملين.
- القانون التكنولوجي (Technological Law): مصطلح مركب وصفي، حيث يُعتبر القانون هو الأصل والتكنولوجيا هي الصفة المحمولة عليه.
تعتبر مصطلحات Legal Tech و Tech Law هي الأكثر تقاربًا وتداولًا في هذا المجال.
2. شركات Legal Start-Up: محرك الابتكار في العلاقة بين القانون والتكنولوجيا
تُعد شركات Legal Start-Up، أو الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا القانونية، من أبرز مظاهر التفاعل بين القانون والتكنولوجيا. هذه الشركات هي مشاريع في مراحلها الأولى، تبحث عن موقع لها في سوق جديد للخدمات أو المنتجات، وتقوم بتطوير خدمة أو منتج مبتكر لحل مشكلة أو تلبية احتياجات المستهلك والعميل [22]. تتميز هذه الشركات باستخدامها للتكنولوجيا، وارتفاع نسبة المخاطرة فيها، ونموها السريع.
تقع هذه الشركات في مفترق الطرق بين القانون والتكنولوجيا، وهي بصدد إعادة تشكيل القانون ومجالاته. تُستخدم هذه الشركات لتحسين الخدمات القانونية، بل وتغيير ممارسة القانون، وتقديم حلول لمشاكل قانونية يومية . في بداياتها، ارتبط مصطلح Legal Tech بمكاتب المحاماة، حيث كانت الشركات الناشئة تزودها بحلول تكنولوجية لأتمتة مهام معينة مثل الفواتير. أما الآن، فقد توسع نطاق نشاطها لتشمل تقديم خدمات قانونية مباشرة للشركات وعامة الناس، وأصحاب المهن القانونية الحرة الأخرى، مثل الموثقين والمحضرين [24].
2.1. مجالات تأثير مشاريع Legal Start-Up
يمكن تحديد مجالات تأثير هذه المشاريع، خاصة في ظل الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، في عدة جوانب:
أ. التأثير في مضمون القانون
دفعت هذه الشركات بعض الدول، مثل الإمارات العربية المتحدة، إلى إنشاء ما يُعرف بـ "مختبر التشريعات" أو "مختبر القانون"، بهدف عرض مقترحات لنصوص تشريعية تنظم أوضاعًا لم ينظمها القانون من قبل، وتتعلق بالمشاريع ذات الصفة المستقبلية أو المؤسسات الناشئة [26]. كما تتدخل هذه الشركات لتنظيم استخدام التقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19 . الهدف من ترخيص هذه المشاريع هو إعداد تشريع منظم لنشاط المشروع في الدولة [27].
ب. تجديد مهام رجل القانون
تساهم هذه الشركات في تبسيط العمليات التي كانت تتطلب وقتًا وإجراءات أطول، مما يسهل مهام رجل القانون. يتم ذلك من خلال أتمتة الوثائق الخاصة بالمكتب أو ملفات القضايا والعقود، أو إدارة المكتب والشركة، أو المحاسبة، أو القيام بالأبحاث القانونية عن النصوص التشريعية والاجتهادات القضائية والفقهية، وتحليل الوثائق والمعلومات والبيانات، ودراسة وترتيب الملفات، ورقمنة المعاملات والمحادثات مع حماية بيانات المتقاضين [28].
ج. تجديد قطاع العدالة والخدمات القانونية
تساهم Legal Start-Up في تجديد قطاع العدالة والخدمات القانونية ككل، سواء المقدمة من القضاة أو مساعدي العدالة أو رجال القانون. تجعل هذه الشركات التكنولوجيا والابتكار رفيقًا للقضاء والعدالة بطريقة تكون أفضل مقارنة بممارسة القانون بالطرق التقليدية، وقد تكون تنبؤية، دون إغفال احترام الحقوق والحريات المكفولة دستوريًا. هذا يساعد في دمقرطة الوصول إلى القانون وجهاز العدالة، وحتى استخدام التكنولوجيا من قبل هيئات التحكيم والوساطة لتكون بديلاً اقتصاديًا لتبسيط عملية حل النزاعات مقارنة بالإجراءات القانونية التقليدية [29].
3. دور القانون في مواجهة التكنولوجيا: تنظيم وتكيف
يُعد القانون علمًا وفنًا في آن واحد؛ علمًا من حيث جوهره ومادته الأولية، وفنًا من حيث طريقة وضعه وإبداع مضمونه وصياغته تقليديًا، يساهم القانون في تنظيم المجتمع وتوفير الأمن والاستقرار القانوني، من خلال تجنب النزاعات والعمل على حلها. لكن الواقع المعاش يؤكد أن التكنولوجيا قد فرضت نفسها على جميع مجالات القانون وقواعده، مما جعل الجمع بين القانون والتكنولوجيا أمرًا حتميًا ونتيجته ملموسة ومجسدة .
لقد تحول القانون من مجرد وسيلة لفض النزاعات إلى علم للتنظيم [31]، يتعامل مع الهندسة [30] والعلوم التقنية. هذا التحول يظهر الدور المهم للقانون في التشارك مع التكنولوجيا، بالإضافة إلى أدوار أخرى تبتعد عن فكرة التشاركية.
3.1. دور القانون في تنظيم أو استخدام التكنولوجيا
يظهر هذا الدور بشكل أوضح من خلال مفهوم "قانون التكنولوجيا" (Tech Law) ومفهوم "التكنولوجيا القانونية" (Legal Tech):
أ. الدور الأول: تنظيم التكنولوجيا (Tech Law)
في هذه الحالة، يكون القانون هو المهيمن، ويبسط سلطانه على التكنولوجيا من خلال وضع الإطار التنظيمي والإجرائي لها. ومن أمثلة ذلك التشريعات التي تنظم استخدام الإنترنت والتوقيع الإلكتروني. كما أن الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يعمل على تنظيم الذكاء الاصطناعي لتنظيم مقدمي أنظمة الذكاء الاصطناعي وتحديد مسؤولياتهم، بحيث لا يتضرر الناس من منتجات الذكاء الاصطناعي .
يصعب الضبط الدقيق للذكاء الاصطناعي، ولكن يمكن تنظيم بعض استخداماته وتطبيقاته. وقد فرض التطور التكنولوجي على المشرع استحداث فروع قانونية ذات طابع تقني خرجت عن التركيب المألوف للقاعدة القانونية التقليدية، مثل قانون الصحة، قانون التهيئة، قانون النقل، قانون الجو والبحر، قانون المرور، القانون المصرفي، قانون التأمين، قانون البيئة، قانون القياس، قانون الجباية، وقانون الاستثمار [33]. هذا التطور أدى إلى ميلاد تشريعات جديدة ذات طابع تقني تؤسس لنفسها قواعد جديدة، وتعتبر مكملة أو آمرة وفقًا للتقسيم التقليدي للقواعد القانونية [34].
ب. الدور الثاني: استخدام التكنولوجيا (Legal Tech)
في هذه الحالة، تكون التكنولوجيا هي المهيمنة، ويستخدم القانون التكنولوجيا كغيره من العلوم. القانون هنا علم يكشف عن واقع موجود، بمعنى مشاهدة الواقع وتسجيله ودراسته. الدور الأول لرجل القانون هو اكتشاف ودراسة ومعرفة القانون ووضع قواعد جديدة مستقبلية .
يعكس هذا الدور النشاط الذي تقوم به الشركات الناشئة في التكنولوجيا القانونية (Legal Tech). في البداية، كان الهدف هو تسهيل الوصول إلى المعلومات القانونية ورقمنة المستندات القانونية، من خلال إنشاء قواعد بيانات قانونية في أواخر القرن العشرين، مثل Westlaw و LexisNexis، ثم توسع نطاقها لتشمل Legifrance [35]. ومع تطور الإنترنت في بداية القرن الحالي، ظهرت استخدامات أخرى لمواجهة الحجم الكبير من البيانات والمعلومات القانونية. دخلت التكنولوجيا لإدارة المستندات وفحصها في وقت وجيز وبأقل أخطاء .
في الوقت الحالي، يعرف الذكاء الاصطناعي العديد من التقنيات سريعة التطور التي يمكنها تحقيق العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية، من خلال التنبؤ بنتائج التقاضي وتحسين العمليات القضائية، مما أدى إلى زيادة الأتمتة وتبسيط العمل القانوني .
إن دور القانون، وفقًا لما تم تحديده، يعكس التطور المستمر لنطاق القانون والتكنولوجيا القانونية، وهذا ليس نتيجة لوظيفة التقدم التكنولوجي فحسب، بل هو صورة واضحة لتحول المجتمع ككل نحو تبني التكنولوجيا. هذا ما دفع الحكومات والدول إلى وضع سياسات واستراتيجيات لضمان سيادة القانون في ظل هذه المتغيرات، وجعل التخطيط الاستراتيجي والابتكار يعززان معًا الصناعة القانونية [36].
3.2. الدور التعاوني والتشاركي للقانون مع التكنولوجيا
باعتبار القانون علمًا، فإنه سيتشارك مع الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في المنبع والأصل، وذلك في منطق وآلية الصناعة:
أ. المنطق
المنطق هو التفكير السليم أو التفكير المنظم [37]. إن العلاقة بين القانون والمنطق، كالعلاقة بين القانون والمجتمع، هي فكرة منطقية. غالبية القواعد القانونية هي استقراء واستنباط صريح لقواعد عامة تحكمها معطيات ونتائج تتفق مع العقل. فالمنطق هو جوهر القانون من حيث نشأته وتكوينه وتطوره وتطبيقه [39].
بالنسبة للتكنولوجيا، وخاصة المتقدمة منها، فإن المنطق لأجل التطبيق العملي يهدف إلى جعل الآلة أكثر تفاعلية مع الإنسان [40]. عند تطبيقها، تجعل التكنولوجيا تحاكي عملية التفكير الاستدلالي البشري. فإذا كان المنطق الذي يعتمده الذكاء الاصطناعي (كصورة من صور التكنولوجيا الحديثة) هو منطق رياضي، فقد تطور ليصبح منطقًا حاسوبيًا يتمثل في البرمجيات والآلات والتطبيقات التي تقوم بمحاكاة العقل البشري [40].
ب. آلية الصناعة
يعتمد كل من القانون والتكنولوجيا على الصناعة:
- صناعة القانون: تظهر الخاصية الفنية للقانون من الناحية العملية بالاعتماد على الوظائف التي يقوم بها. فهو عبارة عن فن من إبداع الفرد يستخدمه لتجسيد تصوراته وتخيلاته. المادة الخام في القانون هي مجموع القيم والمبادئ الموجودة في المجتمع التي يعتمد عليها في صياغة القانون وصناعته [41]. القاعدة القانونية هي المنتج، ورجل القانون بصناعته وإبداعه وصياغته لها، مستخدمًا أدواته الخاصة من تحديد مفاهيم وأنظمة وترتيب قواعد قانونية بترتيب منطقي يساعد على فهمها وإدراك العلاقات التي تربط بعضها ببعض .
- صناعة التكنولوجيا: يُنتظر منها تصنيع منتج معين، أو تحسينه، أو تقديم خدمة، أو تطويرها. تعتمد على وجود مدخلات، غالبًا ما تكون بيانات ومعلومات عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، والتي ستتم معالجتها للوصول إلى مخرجات، وهي المنتجات أو القرارات المتخذة أو الخدمات المقدمة .
4. التحديات القانونية في العصر الرقمي: مواجهة المجهول
مع كل تقدم تكنولوجي، تبرز تحديات قانونية جديدة تتطلب من الأنظمة القانونية التكيف والتطور. العصر الرقمي، بتقنياته المتسارعة والمعقدة، يضع القانون أمام اختبار حقيقي، حيث تتجاوز هذه التحديات في كثير من الأحيان الحدود التقليدية للدول وتطرح قضايا غير مسبوقة.
4.1. تحديات الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي (AI) هو القوة الدافعة وراء العديد من التحولات التكنولوجية الحديثة، ولكنه في الوقت نفسه يثير مجموعة معقدة من التحديات القانونية والأخلاقية .
أ. المسؤولية القانونية
من أبرز التحديات هي تحديد المسؤولية القانونية عند وقوع ضرر ناتج عن أنظمة الذكاء الاصطناعي. فهل تقع المسؤولية على المطور، أم المصنع، أم المستخدم، أم على الذكاء الاصطناعي نفسه إذا كان يتمتع بقدر من الاستقلالية؟ القوانين الحالية لم تُصمم للتعامل مع كيانات غير بشرية تتخذ قرارات مستقلة، مما يستدعي إعادة النظر في مفاهيم المسؤولية التقليدية، سواء كانت مسؤولية عقدية أو تقصيرية. على سبيل المثال، في حالة وقوع حادث سيارة ذاتية القيادة، من يتحمل المسؤولية؟ هل هو صانع السيارة، أم مطور برنامج القيادة الذاتية، أم مالك السيارة الذي اختار تفعيل هذه الخاصية؟
ب. الخصوصية وحماية البيانات
تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على جمع وتحليل كميات هائلة من البيانات الشخصية. هذا يثير مخاوف جدية بشأن الخصوصية وكيفية حماية هذه البيانات من الاستخدام غير المصرح به أو الاختراق. القوانين الحالية لحماية البيانات، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) في أوروبا، توفر إطارًا، ولكن تطبيقها على أنظمة الذكاء الاصطناعي المعقدة التي تتعلم وتتطور باستمرار يمثل تحديًا. فكيف يمكن ضمان حق الأفراد في نسيان بياناتهم أو سحب موافقتهم على استخدامها عندما تكون هذه البيانات قد استخدمت لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي؟
ج. التحيز والتمييز
يمكن أن تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي التحيزات الموجودة في البيانات التي تُدرب عليها، مما يؤدي إلى قرارات متحيزة أو تمييزية ضد فئات معينة من الأفراد، سواء بسبب العرق أو النوع أو الخلفية الاجتماعية.
هذا يثير قضايا قانونية وأخلاقية حول العدالة والمساواة، ويتطلب تطوير آليات لضمان شفافية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي والتحقق من عدم تحيزها.
د. الملكية الفكرية
مع قدرة الذكاء الاصطناعي على إنشاء أعمال فنية، وموسيقى، ونصوص، وحتى اختراعات، تبرز تساؤلات حول من يملك حقوق الملكية الفكرية لهذه الإبداعات. هل هو المبرمج، أم المستخدم، أم الذكاء الاصطناعي نفسه؟ وكيف يمكن حماية الأعمال التي ينتجها الذكاء الاصطناعي من الانتهاك؟
4.2. تحديات البلوك تشين والعقود الذكية
تقنية البلوك تشين (Blockchain) والعقود الذكية (Smart Contracts) تعد بإحداث ثورة في طريقة إبرام العقود وتنفيذ المعاملات، ولكنها أيضًا تطرح تحديات قانونية كبيرة .
أ. الولاية القضائية والقانون الواجب التطبيق
نظرًا للطبيعة اللامركزية والعابرة للحدود لتقنية البلوك تشين، يصبح تحديد الولاية القضائية والقانون الواجب التطبيق في حالة النزاعات أمرًا معقدًا. فالمعاملات تتم عبر شبكة عالمية، وقد يكون أطراف العقد في دول مختلفة، مما يثير تساؤلات حول المحكمة المختصة والقانون الذي يجب تطبيقه .
ب. إشكالية فسخ العقد الذكي
العقود الذكية هي برامج ذاتية التنفيذ، بمجرد استيفاء الشروط المبرمجة، يتم تنفيذ العقد تلقائيًا دون تدخل بشري. هذا يثير إشكالية حول كيفية فسخ العقد الذكي بعد تفعيله، حيث لا يوجد إطار قانوني واضح يحدد آليات الإلغاء أو التعديل، مما قد يؤدي إلى خسائر للأطراف في حالة وجود أخطاء أو ظروف غير متوقعة .
ج. حماية البيانات والخصوصية
على الرغم من أن البلوك تشين توفر مستوى عالٍ من الأمان والشفافية في تسجيل المعاملات، إلا أن طبيعتها غير القابلة للتغيير (immutable) قد تتعارض مع حق الأفراد في مسح بياناتهم الشخصية أو تعديلها، وهو ما تضمنه قوانين حماية البيانات مثل GDPR. هذا التحدي يتطلب إيجاد حلول تقنية وقانونية توازن بين مبادئ البلوك تشين وحقوق الخصوصية .
4.3. الجرائم الإلكترونية
تعد الجرائم الإلكترونية من أخطر التحديات التي تواجه الأنظمة القانونية في العصر الرقمي، حيث تتطور أساليبها باستمرار وتتجاوز الحدود الجغرافية
أ. أنواع الجرائم الإلكترونية
تشمل الجرائم الإلكترونية مجموعة واسعة من الأنشطة غير القانونية، مثل الاحتيال الإلكتروني، وسرقة الهوية، واختراق الأنظمة، ونشر البرمجيات الخبيثة، والابتزاز الإلكتروني، وجرائم الأطفال عبر الإنترنت، والإرهاب الإلكتروني. هذه الجرائم تتطلب تحديثًا مستمرًا للقوانين وتطوير آليات تحقيق وملاحقة قضائية متخصصة .
ب. التحديات في مكافحة الجرائم الإلكترونية
من أبرز التحديات في مكافحة الجرائم الإلكترونية هي صعوبة تحديد هوية الجناة، خاصة في ظل استخدام تقنيات إخفاء الهوية وشبكات الإنترنت المظلمة. كما أن الطبيعة العابرة للحدود لهذه الجرائم تتطلب تعاونًا دوليًا فعالًا وتبادلًا للمعلومات بين الدول، وهو ما لا يزال يواجه عقبات قانونية وسياسية.
جدول 1: مقارنة بين التحديات القانونية للذكاء الاصطناعي والبلوك تشين
التحدي القانوني | الذكاء الاصطناعي | البلوك تشين والعقود الذكية |
المسؤولية | تحديد المسؤولية عند وقوع ضرر من أنظمة مستقلة. | تحديد المسؤولية في العقود الذكية ذاتية التنفيذ. |
الخصوصية والبيانات | حماية البيانات الضخمة المستخدمة للتدريب، حق النسيان. | تعارض مبدأ عدم التغيير مع حق مسح البيانات. |
التحيز والتمييز | تحيزات خوارزمية تؤدي إلى قرارات غير عادلة. | أقل شيوعًا، لكن قد يظهر في تصميم العقود الذكية. |
الملكية الفكرية | ملكية إبداعات الذكاء الاصطناعي. | ملكية الكود المصدري للعقود الذكية. |
الولاية القضائية | تحديد القانون الواجب التطبيق في الحالات العابرة للحدود. | تحديد الولاية القضائية في المعاملات اللامركزية. |
المرونة | صعوبة مواكبة التشريعات للتطور السريع للذكاء الاصطناعي. | صعوبة تعديل أو فسخ العقود الذكية بعد تفعيلها. |
5. فرص ومستقبل القانون في العصر الرقمي: نحو عدالة معززة بالتكنولوجيا
على الرغم من التحديات الجسيمة التي يفرضها العصر الرقمي، إلا أنه يفتح في الوقت ذاته أبوابًا واسعة لفرص غير مسبوقة لتطوير النظام القانوني وجعله أكثر كفاءة وشفافية وسهولة في الوصول. إن التكامل الذكي بين القانون والتكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى تحولات إيجابية عميقة في ممارسة القانون وتقديم العدالة.
5.1. تعزيز كفاءة العمليات القانونية
تُعد زيادة الكفاءة من أبرز الفوائد التي تقدمها التكنولوجيا القانونية (Legal Tech). يمكن لأدوات التكنولوجيا أتمتة العديد من المهام الروتينية والمتكررة التي كانت تستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين من المحامين والقانونيين، مما يسمح لهم بالتركيز على المهام الأكثر تعقيدًا التي تتطلب تفكيرًا استراتيجيًا وإبداعًا .
- إدارة المستندات: تساعد برامج إدارة المستندات في تنظيم وتخزين واسترجاع كميات هائلة من الوثائق القانونية بسهولة وأمان. كما يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي مراجعة وتحليل آلاف الصفحات من المستندات في دقائق، وتحديد المعلومات ذات الصلة، وهو ما كان يستغرق أسابيع من العمل اليدوي.
- البحث القانوني: أحدثت منصات البحث القانوني الرقمية ثورة في طريقة وصول المحامين إلى السوابق القضائية والتشريعات والمقالات الفقهية. تستخدم هذه المنصات خوارزميات متقدمة لتقديم نتائج بحث دقيقة وذات صلة في ثوانٍ معدودة.
- أتمتة العقود: يمكن لأدوات أتمتة العقود إنشاء مسودات أولية للعقود القياسية بناءً على قوالب محددة، مما يوفر الوقت ويقلل من احتمالية الأخطاء البشرية.
5.2. دمقرطة الوصول إلى العدالة
من أهم الوعود التي تحملها التكنولوجيا هي جعل القانون والعدالة في متناول الجميع، وليس فقط حكرًا على القادرين على تحمل التكاليف الباهظة للخدمات القانونية.
- •المنصات القانونية عبر الإنترنت: توفر العديد من المنصات الآن معلومات قانونية مبسطة، ونماذج لوثائق قانونية، وحتى استشارات قانونية أولية بأسعار معقولة أو مجانًا. هذا يساعد الأفراد والشركات الصغيرة على فهم حقوقهم والتزاماتهم واتخاذ قرارات مستنيرة.
- •حل النزاعات عبر الإنترنت (ODR): توفر منصات حل النزاعات عبر الإنترنت بديلاً فعالاً ومنخفض التكلفة للتقاضي التقليدي، خاصة في النزاعات الصغيرة والمتوسطة. تستخدم هذه المنصات تقنيات مثل الوساطة والتفاوض عبر الإنترنت للوصول إلى حلول ودية بين الأطراف.
- •المساعدات القانونية الافتراضية (Chatbots): يمكن للروبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تقديم إجابات فورية على الأسئلة القانونية الشائعة وتوجيه المستخدمين إلى الموارد المناسبة، مما يوفر دعمًا أوليًا على مدار الساعة.
5.3. مستقبل القضاء والمحاكم
يتجه النظام القضائي نحو مزيد من التكامل مع التكنولوجيا، مما يبشر بمستقبل تكون فيه المحاكم أكثر كفاءة وشفافية. يمكن أن نشهد في المستقبل محاكم افتراضية بالكامل، حيث تتم جميع إجراءات التقاضي، من رفع الدعوى إلى إصدار الحكم، عبر الإنترنت. هذا من شأنه أن يقلل من التكاليف ويسرع من وتيرة العدالة .
كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الأدلة والتنبؤ بنتائج القضايا بناءً على السوابق القضائية، مما يساعد القضاة في اتخاذ قرارات أكثر استنارة. ومع ذلك، يجب أن يتم ذلك بحذر شديد لضمان عدم المساس باستقلالية القضاء وحقوق الدفاع، وأن يظل القرار النهائي في يد القاضي البشري.
5.4. تطور مهنة المحاماة
لن تؤدي التكنولوجيا إلى اختفاء مهنة المحاماة، بل ستؤدي إلى تطورها. سيتحول دور المحامي بشكل متزايد من مجرد مقدم للمعلومات القانونية إلى مستشار استراتيجي يساعد العملاء على التنقل في بيئة قانونية وتجارية معقدة. سيحتاج محامو المستقبل إلى اكتساب مهارات جديدة، ليس فقط في القانون، بل أيضًا في التكنولوجيا وتحليل البيانات وإدارة المشاريع. إن القدرة على فهم واستخدام الأدوات التكنولوجية بفعالية ستكون ميزة تنافسية حاسمة في سوق العمل القانوني.
س1: هل ستحل التكنولوجيا محل المحامين والقضاة؟
ج1: من غير المرجح أن تحل التكنولوجيا محل المحامين والقضاة بشكل كامل، بل ستغير طبيعة عملهم. ستتولى التكنولوجيا المهام الروتينية والمتكررة، مما يسمح للمهنيين القانونيين بالتركيز على الجوانب الأكثر تعقيدًا واستراتيجية في عملهم، مثل تقديم الاستشارات، والتفاوض، والمرافعة، واتخاذ القرارات القضائية التي تتطلب حكمة وتقديرًا إنسانيًا. سيصبح المحامي أشبه بمستشار استراتيجي، والقاضي سيستخدم التكنولوجيا كأداة مساعدة لاتخاذ قرارات أكثر استنارة.
س2: ما هو الفرق الجوهري بين "قانون التكنولوجيا" (Tech Law) و "التكنولوجيا القانونية" (Legal Tech)؟
ج2: قانون التكنولوجيا (Tech Law) هو مجموعة القوانين التي تنظم التكنولوجيا نفسها، مثل قوانين حماية البيانات، والجرائم الإلكترونية، والملكية الفكرية للبرمجيات. أما التكنولوجيا القانونية (Legal Tech) فهي استخدام التكنولوجيا لتقديم الخدمات القانونية وتحسين كفاءة العمل القانوني، مثل برامج إدارة مكاتب المحاماة، ومنصات البحث القانوني، وأدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل العقود.
س3: كيف يمكن للقانون أن يواكب التطور التكنولوجي السريع؟
ج3: يمثل هذا تحديًا كبيرًا. لمواكبة التطور، يجب أن تصبح التشريعات أكثر مرونة وتعتمد على المبادئ العامة بدلاً من القواعد التفصيلية الجامدة. يمكن استخدام نهج "التنظيم التجريبي" أو "مختبرات التشريع" (Regulatory Sandboxes) لاختبار التقنيات الجديدة في بيئة محكومة قبل وضع تشريعات نهائية. كما أن التعاون الدولي بين المشرعين والخبراء التقنيين والقانونيين ضروري لوضع أطر تنظيمية متناسقة وفعالة.
س4: ما هي أكبر المخاطر الأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء؟
ج4: تتمثل أكبر المخاطر في التحيز الخوارزمي، حيث يمكن أن تؤدي البيانات غير المتوازنة إلى قرارات تمييزية ضد فئات معينة. كما أن هناك خطر "صندوق أسود" الذكاء الاصطناعي، حيث يصعب فهم كيفية وصول النظام إلى قرار معين، مما يتعارض مع مبدأ شفافية العدالة وحق الأطراف في معرفة أسباب الحكم. بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف بشأن المساس باستقلالية القضاء والاعتماد المفرط على الآلة في اتخاذ قرارات مصيرية.
س5: هل العقود الذكية معترف بها قانونًا؟
ج5: لا يزال الاعتراف القانوني بالعقود الذكية في مراحله الأولى ويختلف من دولة إلى أخرى. التحدي الرئيسي يكمن في كيفية التوفيق بين طبيعتها ذاتية التنفيذ وغير القابلة للتغيير مع المبادئ القانونية التقليدية مثل الأهلية، والرضا، وإمكانية الفسخ أو التعديل. تعمل العديد من الدول على تطوير أطر قانونية لتنظيم هذه العقود والاعتراف بحجيتها القانونية، ولكن الأمر لا يزال يتطلب المزيد من الوقت والنقاش.
خاتمة: نحو ميثاق جديد بين القانون والتكنولوجيا
إن العلاقة بين القانون والتكنولوجيا ليست مجرد علاقة تأثير من جانب واحد، بل هي حوار مستمر وتفاعل ديناميكي يعيد تشكيل كل منهما. فمن ناحية، يتدخل القانون ليضع الأطر التنظيمية والأخلاقية التي تضمن استخدام التكنولوجيا بما يخدم مصلحة المجتمع ويحمي الحقوق الأساسية. ومن ناحية أخرى، تقدم التكنولوجيا أدوات وحلولاً مبتكرة تجعل القانون أكثر كفاءة، وشفافية، وسهولة في الوصول.
إننا نقف على أعتاب عصر جديد للعدالة، "العدالة الرقمية"، التي تعد بالكثير من الفرص لتحسين أنظمتنا القانونية. لكن تحقيق هذه الوعود يتطلب جهدًا واعيًا ومستمرًا من جميع الأطراف المعنية: المشرعين، والقضاة، والمحامين، وخبراء التكنولوجيا، والمجتمع ككل. يجب أن نعمل معًا على بناء جسور من التفاهم بين العالمين القانوني والتكنولوجي، وتطوير تشريعات مرنة ومستقبلية، والاستثمار في بناء المهارات الرقمية للمهنيين القانونيين.
المستقبل ليس في الاختيار بين القانون والتكنولوجيا، بل في إيجاد التوازن الصحيح بينهما. التحدي الأكبر هو ضمان أن تظل التكنولوجيا أداة في خدمة العدالة، وأن لا تتحول إلى سيد لها. يجب أن تظل المبادئ الأساسية للعدالة - الإنصاف، والمساواة، والشفافية، وحماية حقوق الإنسان - هي البوصلة التي توجه مسيرتنا في هذا العصر الرقمي المعقد. إن صياغة هذا الميثاق الجديد بين القانون والتكنولوجيا هو المهمة الحضارية التي تواجهنا اليوم، ونجاحنا فيها سيحدد شكل مستقبل العدالة لعقود قادمة.
المراجع
[1] كريم، كريمة. (2025). القانون والتكنولوجيا، أية علاقة؟. مجلة القانون العام الجزائري والمقارن.
[5] توفيق، حسن فرج. (1993). المدخل للعلوم القانونية. دار الجامعة، مصر.
[7] محمد، حسين منصور. (2002). نظرية القانون. دار الجامعة الجديدة، مصر.
[8] جعجع، الجيلالي. (2009). مدخل للعلوم القانونية. الجزء الأول، "نظرية القانون بين التقليد والحداثة طبقاً للمعايير الدولية المقررة لنظام LMD"، برتي للنشر، الجزائر.
[10] محمد، حسين عبد العال. (1998). مبادئ القانون. الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، مصر.
[11] محمد، حسين عبد العال. (مرجع سابق).
[12] جعجع، الجيلالي. (مرجع سابق).
[13] المستند المرفق.
[14] محمد، نيمل سويلم، وفوزي، شريطي. (2022). القانون والتكنولوجيا - أوجه العلاقة وفرص التكامل. مجلة روافد للبحوث والدراسات، جامعة غرداية، 7(2)، 112-119.
[15] المستند المرفق.
[16] قانون رقم 15-03 مؤرخ في 01 فبراير 2015، يتعلق بعصرنة العدالة.
[17] قانون رقم 15-04 مؤرخ في 01 فبراير 2015، يحدد القواعد العامة المتعلقة بالتوقيع والتصديق الإلكترونيين.
[18] قانون رقم 09-04 مؤرخ في 5 غشت 2009، يتضمن القواعد الخاصة للوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال ومكافحتها.
[19] قانون رقم 18-07 مؤرخ في 10 يونيو 2018، يتعلق بحماية الأشخاص الطبيعيين في مجال معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي.
[20] قانون رقم 18-05 مؤرخ في 10 مايو 2018، يتعلق بالتجارة الإلكترونية.
[21] قانون رقم 23-09 مؤرخ في 21 يونيو 2023، يتضمن القانون النقدي والمصرفي.
[22] مرسوم تنفيذي رقم 20-254 مؤرخ في 15 سبتمبر 2020، يتضمن إنشاء لجنة وطنية لمنح علامة مؤسسة ناشئة ومشروع مبتكر وحاضنة أعمال، وتحديد مهامها وتشكيلها وسيرها.
[24] المستند المرفق.
[26] مرسوم بقانون اتحادي رقم 25 لسنة 2018 بشأن المشاريع ذات الصفة المستقبلية.
[27] المستند المرفق.
[30] المستند المرفق.
[31] PAILLUSSEAU, J. (1996). Le droit est aussi une science d’organisation. Rev, soc, (108-109), 50-51.
[33] جعجع، الجيلالي. (مرجع سابق).
[34] جعجع، الجيلالي. (مرجع سابق).
[35] المستند المرفق.
[36] المستند المرفق.
[37] الصافوري، محمد علي. (2011). مقدمات في المنطق القانوني. مطبعة جامعة المنوفية، كلية الحقوق.
[39] فايز، محمد حسين. (2006). دور المنطق القانوني في تكوين القانون وتطبيقه. دار النهضة العربية، القاهرة.
[40] عبد الفتاح، جاب الله عبد الفتاح. (2021). المنطق الغائم وعلاقته بالذكاء الاصطناعي. مجلة جامعة مصر للدراسات الإنسانية، 1(2)، 261-330.
[41] كريم، كريمة. (2021). محاضرات في فلسفة القانون. الطبعة الأولى، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، ألمانيا.